من أنا ومن أكون؟ : ذكريات وصفحات (2


في محاولة منه للاجابة عن السؤال الابدي: من انا ومن اكون؟ استهل عباس محمود العقاد سيرته الذاتية في كتابه « أنا » بمقولة للكاتب الامريكي « وندل هولمز » يعرف من خلالها ماهية الانسان -كل انسان بلا استثناء : «  ان الانسان- كما يقول هولمز- انما هو ثلاثة اشخاص في صورة واحدة. الانسان كما خلقه الله…والانسان كما يراه الناس…والانسان كما يرى هو نفسه… »

وانطلاقا من هذا التعريف الموجز والمركب للانسان يجيب العقاد عن السؤال الافتراضي بقوله: « فمن من هؤلاء الاشخاص الثلاثة هو المقصود بعباس العقاد؟.. ومن قال انني اعرف هؤلاء الاشخاص الثلاثة معرفة تحقيق او معرفة تقريب؟… ثم يضيف العقاد متسائلا من جديد: « من قال إني اعرف عباس العقاد كما خلقه الله؟ ومن قال إني أعرف عباس العقاد كما يعرفه الناس؟ ومن قال إني أعرف عباس العقاد كما أراه، وأنا لا أراه على حال واحدة كل يوم؟ »

فإذا صار السؤال صعبا و معقدا فإن الجواب عنه بات أصعب و أعقد.

ولعل كل واحد منا- مهما بلغ إدراكه بالامور المحيطة به، ومهما ازدادت معرفته و علت مواهبه – فإنه قد يعجز عن ايجاد جواب كاف شاف لمثل هذا السؤال : « من أنا ومن أكون؟ »

ومن اصدق ما يمكن ان اجيب به عن نفس هذا السؤال في حق شخصي هو: لا أدري!

ولي في ذلك القدوة الكبرى ليس في العقاد وحده، بل وفي كبار العظماء من بني البشر الذين لم يضيقوا بذلك ذرعا ولم يجدوا حرجا في اصدار الجواب بلا أدري عند التساؤل أو السؤال.

وعلى سبيل الذكر لا الحصر، اضرب ثلاثة امثلة على ذلك: واحد لنبي وآخر لعالم لأختم بثالث لشاعر.

اما المثال الاول فهو مذكور في القرآن الكريم عند قوله عز وجل على لسان النبي محمد عليه الصلاة والسلام : « وما أدري ما يفعل بي ولا بكم » (الاحقاف: ٩). ذلك و أن لهذه الآية سبب نزول ترويه كتب التفاسير عن ابن عباس : لما اشتد البلاء بأصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء ، فقصها على أصحابه ، فاستبشروا بذلك ، ورأوا فيها فرجا مما هم فيه من أذى المشركين . ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك ، فقالوا : يا رسول الله ، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت ؟ فسكت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فأنزل الله تعالى : ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) يعني لا أدري أخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أو لا ؟ ثم قال : «  إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يوحى إلي

وإذا كان هذا هو جواب من لا ينطق عن الهوى ولا يتكلم الا بوحي يوحى، فما بال سواه؟

أما المثال الثاني فأذكر فيه قصة شهيرة رويت عن الامام مالك، صاحب المذهب المالكي.

فلقد قال عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد : كنا ذات يوم عند الإمام مالك فجاءه رجل وقف في مجلس علمه وكان الناس يتزاحمون ويتضاربون على مجلس الإمام مالك فجاءه رجل ووقف على مجلس علمه، والإمام بين طلابه، قال الرجل: يا أبا عبد الله ! قال: نعم، قال: لقد جئتك من مسيرة ستة أشهر, لقد حملني أهل بلدي مسألة لأسألك فيها فقال الإمام مالك : سل، فسأله الرجل عن مسألته -ولم تذكر الرواية تلك المسألة- فنظر الإمام مالك بعد ما انتهى السائل من سؤاله وقال: لا أدري، لا أحسن جواب مسألتك، فذهل الرجل وقال: أتيتك مسيرة ستة أشهر وأهل بلدي ينتظرونني وأنت تقول: لا أحسن جوابك مسألتك، ماذا أقول للناس إذا ما رجعت إليهم؟ فقال مالك : قل لهم: قال مالك بن أنس : لا أحسن الجواب.

اما ما يمكنني ان استخلصه من خلال هذا الحدث التاريخي فمفاده ان جواب الامام بلا ادري لم يكن ناتجاً عن تواضع عالم جليل فقط (ولو ان التواضع من شيم العلماء) بقدر ما فتئ معبراً عن استحالة وجود جواب كاف شاف مُحيطٍ بجميع جوانب السؤال المطروح. فلو كان عند الامام جواب لأجاب. الا ان قدره ومكانته لم تمنعاه من الامتناع عن الجواب ولو بحضور حشد من الطلبة والعلماء.

وإذا علمنا بأن خير البشر هم الأنبياء ثم يليهم في الخيرة العلماء، وان الخيرة هاته لم تمنع نبياً ولا عالماً من أن يجيبا بلا أدري عند سؤال من يقلهما قدراً و علماً، فانه من باب أولى ان لا أجد لنفسي جوابا اوفى واغنى من لا ادري خاصة عندما يكون السؤال المطروح على الذات:  » من أنا ومن أكون؟ »

الشئ الذي يجرني الى المثال الثالث

في مقطع بعنوان « صراع وعراك » يحكي الشاعر اللبناني ايليا ابو ماضي ضمن قصيدته الرائعة « طلاسم » معاناته مع الذات – التي من طبعها الا تستقر لها حال بل هي كل يوم في شأن – اثر مجموعة من التساؤلات الفرضية والتي لم يجد للاجابة عنها سوى عبارة « لست ادري »

يقول ايليا أبو ماضي

 صراع وعراك:

إنّني أشهد في نفسي صراعا وعراكا

وأرى ذاتي شيطانا وأحيانا ملاكا

هل أنا شخصان يأبى هذا مع ذاك اشتراكا

أم تراني واهما فيما أراه؟

لست أدري!

كلّ يوم لي شأن ، كلّ حين لي شعور


هل أنا اليوم أنا منذ ليال وشهور

أم أنا عند غروب الشمس غيري في البكور

كلّما ساءلت نفسي جاوبتني:

لست أدري!

ربّ أمر كنت لّما كان عندي أتّقيه

بتّ لّما غاب عنّي وتوارى أشتهيه

ما الّذي حبّبه عندي وما بغّضنيه

أأنا الشّخص الّذي أعرض عنه؟

لست أدري!

ربّ شخص عشت معه زمناألهو وأمرح

أو مكان مرّ دهر لي مسرى ومسرح

لاح لي في البعد أجلى منه في القرب وأوضح

كيف يبقى رسم شيء قد توارى؟

لست أدري!

أنا لا أذكر شيئا من حياتي الماضية

أنا لا أعرف شيئا من حياتي الآتيه

لي ذات غير أني لست أدري ماهيه

فمتى تعرف ذاتي كنه ذاتي؟

لست أدري!

إنّني جئت وأمضي وأنا لا أعلم

أنا لغز … وذهابي كمجيتي طلسم

والّذي أوجد هذا اللّغز لغز أعظم

لست أدري!

فاذا كان جواب هؤلاء جميعا هو لاأدري, فانني لست بأعلم ولا أدرى بمن أكون أو قد لاأكون. فاللغز يبقى عالقا في انتظار توفر الحل الابدي. ومن أجل طي صفحة الذات أختم حديث النفس لهذه الليلة بهاته الكلمات :

اذا سئلت عني

خذ الجواب مني

وأجب سائلك عني:

أني حقا لست أدري

7 Replies to “من أنا ومن أكون؟ : ذكريات وصفحات (2”

  1. Chakhesan fi nadari youmkinan an you3etiyaa adqua jawab 3ala asou2al: man houa daka alinsane aou tilka alinsana??? wa kilahouma yarayani achakhesa fi ad3afi ahoualih, ma3a ana Allaha wahedahou 3alimoun bissara2ir. Haoula2i achakhesane houma: Oumou alinsane wa zawjatouh (aou zaoujouh). Aloumou tounchi2ou attifla baina ahadaniha 3indama yasquoutou min bateniha 3ariyan ila an yasira rajoulan, wa azawjatou aou azawejou houa alwahidou (aou alwahidatou) alladi yara achakhesa 3ala tabi3atihi…wallahou a3elam.

    1. ربما يكون الجواب كما ذكرت عند البعض وربما لا يكون كذلك عند غيرهم: « اباؤكم وابناؤكم لا تدرون ايهم اقرب لكم نفعا. » مرة اخرى يذكرنا القرآن باننا لا ندري. لكن كل ما يمكنني ان اضيف هو انه اذا كان الانسان نفسه لا يدري من يكون ومن لا يكون فمن باب اولى الا يتجرأ عليه أحد في اصدار الاحكام المسبقة و نعته بما قد لا يلائم الصواب

      Envoyé de mon iPhone

  2. law kana hada almantiquou sahihan 3ala touli ekhat lama kana alhayou alquayoum fi kitabihi yan3atou anassa wa yasifouhoum, wa la taraka koula chai2in moubhaman…wa in a3adetoum quiraata ta3eliqui faana lam tahadath 3an na3eti achakhes wa inama ma3erifatih…wa alaya alkarima touakid ana alinsana la yadri man yanfa3ouh, wa lama yarid fiha anahou la yadri man ya3erifouh…wallahou a3elam. wa adounou ya akhi anahou ba3idan 3an hairati albal wa tawrati anafs, hounaka hassanate wa sayi2ates, hounaka khair wa char, hounaka sidq wa kadib, hounaka ta3a wa ma3esiya, hounaka lail wa nahar…wallahou wahedahou lahou elhaq an youquayima ma eljihatou elghaliba fi kouli nafsin bachariya…
    Ramadane Moubarak…ina mounsabatoun li kouli nafsin an tasmoua ila ma tasbou ilaih…

    1. ان الحديث هنا ليس عن المبادئ الكونية: الخير والشر، الصدق والكذب، الامانة والخيانة التي بواسطتها يميز الانسان القبيح من الطيب…بل الامر عندنا يتعلق بمعرفة النفس البشرية التي من طبعها التقلب من حال الى حال كما هو الشأن بمن ذكروا في المقال وغيرهم. وهذا الطبع المتغير للنفس لا يتناقض اساسا مع القيم الراسخة منذ الازل. فصار لزاما التمييز بين التابث والمتحول. و النفس البشرية في رايي هي اقرب الى المفهوم الاخير منه الى سابقه.

      Envoyé de mon iPhone

  3. Mis à part taqualoubat enafs, qu’Allah nous guide vers son droit chemin. Ya mouqualiba alquouloub wa mousarifaha tabit qualbi 3ala dinik. Qu’Allah nous apaise et nous accorde la sagesse en ce mois Saint.

Répondre à x Annuler la réponse.